كتبها: أحمد الجلالي
استمتع كل عام بالعودة إلى البادية، بمناسبة عيد الأضحى، كما استطيب
استعادة بداوتي ولو لبضعة. لم تعد البادية بادية أصيلة بعد أن وصلها الكهرباء
والإنترنت. ضاع الهدوء وسمة الوقت البطيء الذي تستلذه بالثانية.
ورغم هذا "التقدم" المشوه الذي جعل المدنية الزائفة تزحف على
باديتي إلا أنها ماتزال تحافظ على بعض من خشونتها الصحية وهوائها النقي وبقايا
طباع حميدة لجزء من أهاليها.
تكون البادية بادية فقط عندما يعيش الإنسان والحيوان والطبيعة جميعا في
تكامل وتناغم، عدا هذا يختل الميزان ولا يبقى لها من هويتها غير الإسم.
ذلك العام، صيفا ولمناسبة الأضحى، كنت في الموعد. مضى يوم العيد كما هو
بطقوسه وروتينه المعتاد، ومله انقضى اليوم الموالي لولا ذلك المخلوق الذي تسلط علي
نصف ساعة تقريبا بعد الفجر.
في عز نومي اطلق صيحة ليست كصياح الديكة: صياح ديك لكنه ممزوج بشيء من بني
ادم. نعم يصيح كالديكة غير ان به شيئا من الاحتجاج البشري مع مسحة حقد على كل نائم
في تلك الفترة ما بين الليل والنهار.
وأصر ابن الذين أن يكرر فعلته كلما عدت للنوم إلى أن اضطررت للقيام مكرها
تعبا. وعاودها ابن تلك البيضة المسحورة في اليوم الثالث، بل بلغت به الوقاحة أن
اقتحم علي البيت وأسرف في فجوره الدجاجي.
قصصت على أفراد الأسرة ما صنع بي ذلك "الدويك" الذي، من فرض غضبي
منه، سميته لهم "طكعان". ضحكوا هم وكتمت حنقي عليه.
خلال اليوم راقبتك إلى أن ظهر فجأة من تحت شجره. ويا لهول ما رصدت:
ــ يخرج من أي مكان في أي وقت مسرعا نحو هدف شرير دائما كالانقضاض على ديك
أصغر منه أو التنكيل بكتكوت ثم العودة بأسرع ما يكون ليختفي لم أدر أين.
ــ يبدو في شكله أنه لا يعيش أي نظام ضمن فصيلته بل كأي هلفوت أو صعلوك
خارج عن القانون، ريشه خفيف، مع عراء فاضح في جزئه الخلفي ورأس مشدود إلى الأمام
ومنقار بين الأصفر والأحمر وارتفاع غير طبيعي في الرجلين. يبدو كاريكاتورا خرج من
خم الشيطان.
ــ في غاراته المفاجئة يتصرف كفأر الخيل الذي يمضي كالبرق ولا يترك لك
مجالا للرؤية أو حبك حيلة للإيقاع به.
ــ حاولت استدراجه بخدعة الإطعام غير أنه تصرف كلص محترف يقف بعيدا عني ولا
ينال منه الإغراء حتى إذا انصرفت التفت بحذر ونقر على الحبات واحدة واحدة أو فر
بالخبز بعيدا. تصرف كقط ماكر ابن تلك الدجاجة السائبة.
عدت بعد شهور فسألت أشقائي عن "طقعان" فقيل لي إنه يختفي ويظهر
فطلبت منهم أن يشتروه من أصحابه بأي ثمن سأدفعه فقط لأراه ممدا أمامي بلا حراك فوق
صحن فخاري كبير لوجبة رفيسة، لكنهم أكدوا لي أنه غير منتم لأي من أهل القرية.
علمت أنه مواطن دجاجي خارج عن القانوني استحق مكري لو أني وجدت له سبيل. في
الحقيقة، لم يترك ابن ذلك النسل الغريب أي سبيل لتصيده لا لي ولا لغيري.
وقد ذكرني هذا الدويك الشرير شكلا وسلوكا بطقعانين بشريين يقاسمونه السلوك
والأخلاق وكل الصفات الذميمة.
عرفت مطاقيع كثرا لا يجمعهم بك سوى قصعة الطعام وما أن تنتهي الفريسة حتى
يطيروا كغربان ناكرة جميل إلى مجاهل وأصقاع بعيدة ثم ينسونك تماما.
عاشرت مطاقيع حسبتهم أصدقاء ذوي شهامة لكن كانت لهم أغراض حكمتها شروط
الزمن فتبخروا مع الزمن ولم يبق لهم عندي ذكرى ولا احترام اللهم روائح عفنة في رقن
قصي معتم من الذاكرة.
عرفت طقعانا على الخصوص، توفرت به كل شروط الطقعنة والضرطنة، ولست أدري كيف
تسلط علي سنوات لم اقدر على صده بطبعي الميال لعدم كسر الخواطر ما أمكن كما عجزت
عن تقبله أو تحمله كما هو..لكنه ظل لصيقا بي مثل قراد يمص دمي كلما غفلت.
طقعان ذاك مثل ذلك الدويك تصرف دوما بانتهازية، وهاجم بحقارة، وغنم بغير
شرف، وضحك في شماتة، ووعد وفي القلب غدر، وتضامن وعلى الشفتين رغبة شديدة في
الاستهزاء، وصال وجال في النوادي والبوادي متعطشا للمال...وللمال فقط.
طقعان كان ولا يزال وسيظل عبدا للدرهم والريال والفلس..لا مبدأ ولا ذمة
وربما لا ملة حتى.
أتى علي حين من العمر عاد لي البدوي الذي هو الأصل في وأمرني بأن أكنس الساحة.
قلت لي: حاضر..وأطعت.
ما أحلى ملعب الحياة خاليا من كل مطقاع أو مقلاع أو مضراط أو زعطاط.