كتبها: أحمد الجلالي
ينادونه حمادي و لا يعرف بالضبط
لماذا اختار له أبوه هذا الإسم الذي لم يحمله قبله عم أو جد. ويلقبونه "حموده
لاكريس"، ولا يدري هو ولا من لقبه سبب ومعنى هذه الكنية.
لكن حمودة يعي جيدا مهنته
وأمنيته. أما مهنتك التي أتقنها فكانت رعي الأغنام، ولذلك آمن بتخصصه ولم يتدخل في
شؤون الفلاحة بين أشقائه ولا أدلى يوما برأي أو اقتراح، كما لم يعترض على شيء
مطلقا.
أمضى سنوات طفولته ومراهقته
ونصف عشرينياته راعيا يمضي وراء قطع أغنام يهش عليها تارة ويسبها تارة أخرى ولكن
في لحظات ما يعزف وحيدا على الناي لنفسه ولخرفانه.
أسر لنفسه يوما أنه تجاوز
"بلوغ الكلب" وأن دوره في الزواج بعد أخيه الأوسط قد أزف. هو لا يعرف من
الزواج غير أمثلة في القرية لأقرانه ممن تزوجوا فأنجبوا سريعا.
سأل نفسه يوما: بمن سوف
يزوجونني يا ترى؟ من قريتي أم من قرية أخرى أم من الأقارب؟ لم يهتم كثيرا بالجواب
ونهض ليراقب قطيعه على جنبات الوادي.
لسبب ما ذهب حمودة إلى القرية
البعيدة عن سكناه بأقل من كيلومتر، وفي طريق عودته وقف مشدوها أمام وجه فتاة لم
يعرف من أين خرجت له في عز حر الصيف.
مرت من أمامه ونظرت نحوه
بابتسامة خفيفة ثم اختفت كوميض برق لاح في ليلة ظلماء ماطرة.
شعر حمادي ببعض الدوار في رأسه فعزاه
للحرارة المفرطة في شهر أغسطس ثم انصرف، وفي طريقه ابتسم لنفسه دون سبب ثم صفر
بأغنية كعادتة كلما شعر ببعض الرضا عن ذاته.
عاد مرارا للقرية المجاورة عساه
يرى ذلك الشبح الجميل فخاب أمله في جميع المحاولات. لكن ذات يوم خميس، وهو موعد
السوق الأسبوعي حيث تجد فتيات القرية بعض الحرية لمغادرة البيت بحجج واهية تتغاضى
عنها الأمهات في غياب الآباء، كان حمودة محظوظا إلى درجة أنه رآها مرتين، في المرة
الأولى عن بعد وفي المرة الثانية عندما مرت به عمدا كما قدر متحججة بالذهاب لجلب
الماء من البئر.
عاد حمادي لمنزل والديه وكان
يكاد ينط من فرحة مجهولة المصدر وهو يمشي حافيا في طريق متربة تشق القرية شطرين.
شعر بالرضى الذي نادرا ما يهجم
عليه بتلك الغزارة، ومن فرط فرحه ساق قطيعه للرعي قبل الموعد اليومي بساعتين. كان
يريد أن يختلي بنفسه بعيدا عن الناس ليحدث ذاته بصوت مرتفع. تلك عادته كلما التبس
عليه أمر.
مع توالي الأسابيع أدمن حمادي
على البئر وكان كلما راح إلى هناك في نفس التوقيت تقريبا من كل خميس لم يكن ذلك
"الشبح الجميل" يخلف المواعيد.
تكلما من دون كلمات ونابت
الأعين عن اللسان. لكنه في مرة من تلك المرات اللذيذة تجرأ وجلب لها الماء من
البئر فابتسمت ولم تعترض، وحاول هو التأخر في رفع الدلو الثقيل ليمدد ذلك الزمن الذي
تمنى لو توقف بهما جنب البئر
توالت الأسابيع والشهور ونار
حمادي في الرأس والصدر تشتعل فتضرم حرائق في روحه.
قال لنفسه يوما حازما: حكيمة لي
وليذهب هذا العالم كله لجهنم.
تنبه أهل القرية لرحلات حمادي
الخميسية وكيف يذهب لأبعد بئر عن قريته ليورد حماره ثم لاحظوا أنه يفعل ذلك مرارا
في أوقات متقاربة. وتساءلوا عن السبب الذي يجعل حمار لاكريس يعطش بسرعة. وقال بعض
الخبثاء إن حمادي يخلط له العلف بالملح.
قبل أن يفاتح حمادي أمه في
موضوع حكيمة جاء الخبر الصاعقة: ابن الحاج الزعري خطبها لابنه وأبوها وافق، وقضي
الأمر.
لملم حمادي جراحه في صمت وتاه
يوميا خلف قطيعه يهدي بكلام غريب ثم يجلس ويعزف لنفسه أنغاما شجية ثم يصفر إلى
الفضاء صفيرا يشق الأفق.
مرت السنوات وأنجبت حكيمة طفلا.
حمادي يتقصى الأخبار عن كثب ويتابع أي جديد عن محبوبته "من بعيد لبعيد".
حمادي شخص منعزل وقليل الكلام
ولكن يجد راحة في الحديث إلى الأطفال، يحب برائتهم ولكن بمجرد أن يصبحوا مراهقين
يقاطعهم.
كان عزيز أحد الأطفال الممدرسين
الذين يجالسهم حمادي واختاره من بين الجميع ليصطحبه أحيانا معه إلى الرعي بل
وليعزف له ألحانا جميلة ولكنها حزينة.
اعتبر عزيز صديقه إلى حد أنه قص
عليه ما ظل لأعوام يمور في صدره. تنفس عميقا وظهرت دمعة على خد فوق وجه قمحي.
عزيز استمع في خشوع ولم يعقب.
وبعد دقائق سأله:
ــ عمي حمادي بم شعرت يوم وصل
خبر خطبة حكيمة؟
ــ أترى تلك السماء؟
ــ طبعا
ــ من يومها سقطت ولم تعد
لعليائها.