recent
اخر الاخبار

الهدلية..الحاكمة الأسطورية لنهر سبو العظيم

Home

 

 


  كتبها: أحمد الجلالي

 

كنا أطفالا وكان هذا العالم يبدو لنا كبيرا جدا. كنا صغارا وكان نهر سبو هو المحيط الأطلسي في اعيننا المندهشة من الناس والأرض وما يدب عليها وما ينبت فيها.

كنا نعرف ان هذا النهر المقدس يأتي من بعيد دون ان ندري كيف نقيس هذا البعد وبأية أداة. تمنيت دائما لأذهب الى هنالك على ظهر كلبي "شيبان" لكي اعرف من اين ينطلق سبو ومن اين يأتي بهذه المياه التي لا تتوقف ليلا او نهارا.

سحرني سر النهر بقدر ما كان يلتبس علي امر أخيه الأصغر بهت، غير البعيد عن قريتنا. على ضفة سبو كنت اشعر بالرغبة في المغامر الى البعيد، ولكن قرب بهت كانت تصيبني قشعريرة لم اعرف الى اليوم مصدرها. لعلها قصص الجن الكثيرة المرتبطة بهذا النهر الملتوي مثل حية خرافيه.

سبو أيضا كان ملتويا على مستوى قريتنا: يلتوي شرقا قبل تشريفنا بحوالي ميل ثم ينعرج غربا بعد "أولاد جلال" نحو افاق أخرى كانت بالنسبة لي طفلا هي حدود العالم.

قريتي كانت جنوبا ويفصلها طريق ثانوي من مخلفات الاحتلال الفرنسي، وقد كان بمثابة حدود رسمية بين القرية والماء.

مسكن وحيد تحدى هذا القانون وشيد على النهر تماما. بل كان يطل على المياه مباشرة. عندما فتحنا الاعين على الحياة وجدنا ذلك الكوخ الطيني محفوفا بالشجر والغموض وغير قليل من الخوف.

في المرات القليلة التي تحديت خوفي وانا ابن السادسة تقريبا اقتربت من الكوخ بحذر شديد وتوقعت ان تخرج لي كائنات مرعبة من اللامكان فتراجعت وقلبي الصغير يدق.

وخلال مغامرات اقترابي من "خيمة الهدلية" تلك، رأيت رجلا فوق شجرة ومن شدة هلعي لم اتجاسر لكي ادقق في ملامحه فأطلقت ساقي للريح.

مازالت كل مشاهد طفولتي بتلك القرية طرية ولكن من اكثرها طراوة ووضوحا ينتصب وجه "الهدلية" رحمها الله.

كانت تبدو لي نصف ادمية ونصفها الثاني من عالم الجن او ما يشبه الجن.

كان يزيد خوفي منها هلعا لما اراها تكلم نفسها او تسير غربا وهي تقوم بحركات وكان شبحا لا اراه يرافقها وتحاوره.

غالبت نفسي مرة لاقترب منها كثيرا، وكان سبب ثقتي الزائدة بنفسي ذلك اليوم أنى في تلك الطفولة الشقية كنت اعول على امرين زعمت الا احد من اقراني كان لي ندا فيهما: الخفة في تسبيق الصفعات للوجه و السرعة الخارقة في الهرب منسحبا من المعركة او بعد تنفيذ "غاراتي".

اقتربت من العجوز: خريطة غريبة من وشم قديم يعلو وجهها. قطع من فضة حقيقية مرصوصة كجنود واقفين بصرامة على صدر تعلوها ملابس الفقراء الرثة.

بالأذنين أيضا حلقتان من "نقرة" خالصة تنسدلان كثيرا صوب المنكبين بدا فوقهما شعر مصبوغ بالحناء.

ورغم انها ابتسمت لي بحنية وود الجدات غير اني تراجعت الى الخلف ثم وليت وجهي قبل الجنوب مسرعا.

ظلت "الهدلية" لغزا دأبت على تتبعه وكلما تعقبتها زادت اسئلتي: ما معنى الهدلية؟ لماذا تعيش وحدها؟ كيف تعيش ومن اين تأكل؟ هل لديها أبناء وأين هم؟ ومع من تتحدث وحدها؟ هي يعيش معها عفاريت؟ لمن تضحك أحيانا وحدها؟.

لا جواب عن أي من تلك الأسئلة ابدا.

 

مضت السنين بل انصرمت العقود وكبرنا كما كبرت معنا احلامنا وصغرت اوهامنا. قبل بضعة أعوام سنحت لي فرصة الحديث الى أحد أبناء القرية ظل ملتصقا بها، وخضنا في حديث الذكريات.

كنت اساله عن أحوال الأمكنة وعن الناس. كان يعد لي المرحومين. ترددت ان اساله عن الهدلية وما صنع بها القدر. سبقني: الهدلية ماتت منذ سنوات.

رحم الله تلك الجدة وسقى ايامها ونور قبرها. عاشت في كوخ ولم تأخذ من الدنيا حظا ولعلها لم تترك خلفها سوى قراط الفضة تلك التي رأيت على صدرها في تلك الطفولة البعيدة...البعيدة جدا.

 

google-playkhamsatmostaqltradent