recent
اخر الاخبار

حفرنا له قبرا فنجا من الدفن حيا بأعجوبة ..ونجونا من سجن الأحداث

Home

 


 

 

كتبها: أحمد الجـَــلالي

الكامل..نعم كان اسمه الكامل: الفنوك الكامل. كان زميلنا في مدرسة سيدي الكامل الابتدائية، حيث أمضى كل منا سنواته قبل أن يحصل على تلك الشهادة أو يمضي خائبا ليشتغل راعيا أو أي عمل بدني قذر ويفني حياته في الأرض ثم إليها يعود كما سنعود رغما عنا.

تلك المدرسة بجدرانها السميكة الشامخة، ظلت وماتزال مكانا له هيبة ووقار وقدسية لدى كل من مروا من هناك. تعاقب على تلك المدرسة ذات السطوة معلمون عباقرة وآخرون كانوا جلادين في وزرة معلم.

في بداية ثمانيات القرن الذي ودعنا كنا مجموعة من أبناء الدواوير القريبة والبعيدة من المدرسة نشكل أقسام المؤسسة من التحضيري إلى المتوسط الثاني. كنا في القسم الابتدائي الأول وإمارنا تحوم حول العاشرة.

منذ اليوم الأول ضربت صحبة مع ميلود، الطفل الأسمر، ابن قريتي والذي تربط أبي بجدته لأبيه قرابة. كان بيننا تعاطف يستند للقرابة وللانتماء للقرية نفسها، وأيضا لأن الطيور على أشكالها تقع فقد تشاركت وميلود اهتمامات توزعن بين الدراسة وعدد من الألعاب الشقية وفي مقدمها الصيد بالصنارة والمقلاع وتنمي امتطاء دراجة هوائية وكرة القدم، التي كان صديقي يفضل فيها موقع حارس. كنت بخلافه ميالا للهجوم المتقدم.

كنا نتقاسم وجبة الغذاء بعد منتصف النهار على أعتاب الحجرات الدراسة: خبز وشاي بارد وفي أحسن الحالات صلصة طماطم تكون بردت بما يكفي وتشربها الخبز من طيلة ست ساعات، إذ كانت أمهاتنا عليهن الرحمة تهيئن لنا تلك الوجبات بعيد الفجر.

وبعد الغذاء الذي لم يشبع يوما بطوننا كما اشتهينا كنا نمضي تلك الاستراحة من ساعتين في لعب الكرة أو "البي". لم يكن يفزعنا سوى اقتراب موعد حصص ما بعد الزوال بعد أن ينتهي معلمونا من الاستماع لإحدى حلقات التمثيلية الساحرة ّالأزلية".

كنت استرق السمع قرب باب بيت المعلم فيصلني صوت "سيف بن ذي يزن" مجلجلا عبر حنجرة الممثل الراحل محمد حسن الجندي، أو أسمع العربي الدوغمي في دور برنوخ أو صوتا مخيفا لعقيصة الجنية؟

ولكن سرعان ما أعود للكرة والنزال الذي لا ينتهي إلا ليبدأ مجددا بين فرق صغيرة مؤلفة من أربعة أو خمسة عن كل دوار. نهزمهم اليوم وينتصرون علينا في اليوم الموالي وهكذا دوالينا.

لم يكن ينغص ميلود شيء سوى شقاوة الكامل. كان وجهه أكثر طفولة منا، يميل للسمرة القمحية، مجتهد سريع الحفظ، يبدو لمن لا يعرفه لطيفا جدا. ولكن مع ميلود تحديدا يتحول إلى شيطان صغير.

ونظرا لعشقه لعبة "البي" فقد كان قبل أن يرسل تلك الكريات الزجاجية من بين أصابعه يغمس يده في الغبار الكثير ثم يسدد. وبعد أن يقف يمسح يده إما بملابسه أو على رأسه أو حيثما وقعت أصابعه.

ولأن الكامل قرين الغبار فقد عن لي أن ألقبه "الغبرا"، وفعلا بدأ التلاميذ ينبزونه بتلك الكلمة فيما كنت أتلذذ باختراعي الذي أعطى مفعوله لكن الكامل لم يكن يتضايق أبدا بل اختار لنفسه كنية لم أفهم معناها إلى اليوم : "اضفيفر".

ولم يكتب بهذا اللقب الغريب وإنما كان يقترب من أذن ميلود ويقول له : أنا أضفيفر...ثم يهمس له ببقية كلام كان يجعل صديقي يتهيج فيما يلوذ اضفيفر بالفرار.

كان يوما حارا في بداية صيف ذلك العام الجاف حينما بلغ سيل ميلود الزبى. كنا نلعب الكرة ولسبب لم أره قصف الكامل ميلود بحجر على مستوى الكاحل فسقط صديقي أمامي وكأنه تلقى رصاصة من قناص لا يرحم.

سقط ميلود الذي كان يعاني شبه إعاقة في الرجل اليمنى ولكنه صرخ في بما معناه: اجلبه لي..اجلبه لي حالا...وإلا سأفش فيك غيضى.

قبل أن يكمل ميلود نداءه العاجل كانت يدي قد وصلت إلى قفا اضفيفر وجرجرته في الغبار الذي يحبه إلى أن رميته على ركبتي ميلود.

اضفيفر يصرخ وميلوك يدقه كما تدق جدة التوابل في مهراس نحاسي. ضربه، بل سحقه سحقا ولما اكتفى منه كان وجه الكامل دموعا مختلطة بغبار داكن على وجه طفولي أسمر. ومع ذلك، بمجرد أن بلغ مسافة الأمان شتم صديقي بكلام قبيح مسموع.

ظننت أن القصة ستنتهي هناك وأنهما لابد أن يتصالحا كما يحصل كل مرة. لكن هذه المرة ما كانت لتمر كسابقاتها، إذ قررت و ميلود أن نضع نهاية لمشكلة اسمها اضفيفر صار يؤلب علينا أبناء قريته بعد حادثة "المهراس".

ولكن كيف ننتهي من مشكلة الكامل هذا؟

مضت أيام فرسوت وميلود الذي كان يفضل اسم الميلودي، رسونا على حل يمر عبر دفن اضفيفر....والسلام.

قمنا بمسح جنبات الطريق على طول تلك الكيلومترات التي كانت تفضل بين دوارنا والمدرسة ووجدنا المكان الأمثل: حقل قصب سكر مثل غابة صغيرة. هناك وجدنا مكانا بين القصب الكثيف يبدو مثل حفرة لم تكتمل قررنا أن نكملها نحن بطريقتنا ونجعلها قبرا للكامل.

ترصدناه إلى نهاية الأسبوع حيث كنا نتسابق نحن أبناء الدواوير فرحا بيوم عطلة آت، وفي غمرة تلك البهجة خططنا أن نستدرج اضفيفر إلى طريقنا ومن ثمة ندفنه وننتهي منه.

هكذا أمرتنا وزينت لنا عقول الشياطين الصغير التي كانت تسكن رأسينا.

وفي لحظة خروجنا من القسم قبيل الغروب انطلقنا كقطيع هائج في كل اتجاه ولم ندر كيف اختفى الكامل وكان الأرض بلعته.

بحثنا عنه في كل مكان بلا جدوى. قدر ميلود انه احس بنا نضمر له مكيدة وكان رايي انه ربما ذهب الى احقل قصب السكر الذي كان خلف المدرسة ليتبرز فأفلتناه.

تحسرنا على الصيد الذي ضاع منا وواسيت ميلود بانه نال منه يوم قصفه بحجر وانه هرسه كما يهرس الابزار في المهراس النحاسي الأصفر. ضحكنا ثم مضينا.

ولحسن حظنا كانت العطلة الصيفية على الأبواب حيث بدأ المعلمون يتغيبون وقلدهم كثير منا على أساس ان العطلة وصلت وان ما ينقص فقط هو ان نجلب للمعلمين البيض البلدي ولا باس من الدجاج كما جرت العادة قبل الاحتفال بإعلان النتائج.

في هذه الظروف المتأرجحة بين الدراسة وعدمها والتغيب المقرون باقتراب العطلة مع تساهل المعلمين وحاجة الآباء لمساعدة أبنائهم في عز فصل الصيف...غاب اضفيفر من يومها ولم نره الا في الدخول المدرسي الموالي.

والحقيقة انه سواء كان اضفيفر قد فطن لنا او فقط ذهب ليتبرز فوالله لقد اتخذ أحلي قرار في حق نفسه وفي حقي انا والميلودي. كنا على مقربة ارتكاب جريمة لم نقدر حتى انها جريمة لو حصلت كانت ستجعل منا مجرمين صغارا بسجن الاحداث بدل تلاميذ ودعين يرجون من أنفسهم خيرا.

بعدها بثلاث سنوات كان ميلود قد قرر مغادرة الدراسة بعد وفاة والدته، فيما رسب الكامل في الشهادة الابتدائية وكنت ثاني اثنين من عتقائها.

مذ ذلك التاريخ لم ار الكامل وباعدت الأقدار بيني وميلود. الأول ونظرا لذكائه كان بمقدوره ان يكون مهندسا او أستاذا بالسلك العالي اما الثاني فكان بوسعه ان أستاذ رياضيات او محاسبا على الأقل.

ومع ميلود والكامل تحضرني وجوه جميلة ذات عقول نيرة غابت في الزحام: الصاعد،سلام،بوجمعة، الزهواني، شاط، الركي، اوريكة،لمهيدي،الحاج،لحمر، حالة، الطيبي وسعيد ابليوة، الوحيد الذي التقيه وباستمرار بلا مواعيد مسبقة.

اشتاق اليهم جميعا واتهيب من ان اراهم في الوقت نفسه. تعرفون لماذا اتهيب؟ لعلي لا اريد ان اقرأ في وجوههم ويطالعوا هم على محياي ما فعل الزمن بنا وفينا.

لهم جميعا، وللعزيز الكامل اضفيفر...محبات وعناقات.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حفرنا له قبرا فنجا من الدفن حيا بأعجوبة ..ونجونا من سجن الأحداث
فيسبوق

Comments

1 comment
Post a Comment
  • Khadija photo
    KhadijaJune 10, 2023 at 8:48 AM

    استمتعت وانا اقرأ هذه الكلمات المليئة بمشاعر الطفولة واتخيل مشاهدها.أبدعت أبدعت شكرا.

    Delete Comment
    google-playkhamsatmostaqltradent