recent
اخر الاخبار

قاتل الملل وشانق الضجر..امحمد صاحب عمود: كلامي مع ماليه

Home

كتبها: أحمد الجلالي

الزعيم
الزعيم المبجل

التحق بشبيبة الحزب "اليساري" في السنة الأولى من الثلث الأخير من القرن الماضي. كان هدفه من الانضمام إلى ذلك التنظيم السياسي مزيجا من المصالح غير الواضحة وغير قليل من الأنا الفردية الناشئة فيه.

وفي غضون بضعة أعوام صار امحمد المراسل المحلي لصحيفة الحزب. وبعد نشر اول مراسلة له باسم مستعار لم يستطع النوم أسبوعا كاملا بفعل الفرح والخوف والفخر وتمازج كثير من العواطف والأحاسيس. حزن لأن المقالة لم تكن موقعة باسمه وكان عزاؤه أن الحزب والمقربين منه في البلدة يعرفون أنه صاحبها.

وسرعان ما وصلت هوية كاتب المقال حول تراكم الازبال في باب الجماعة المحلية وتغول الكلاب الضالة إلى القايد عبر لمقدم جلول اليقظ إلى حد كان يعرف متى تلد الكلبة وكم ولدت بعد ساعات من تعزيزها تعداد جيش كلاب القرية.

قرر امحمد أن يواصل العمل "الصحفي" وأصر في مراسلة مطولة لرئيس تحرير جريدة الحزب على أهمية منحه بطاقة مهنية ليدلي بها عند الحاجة. إدارة الصحيفة شكرته على حماسته ووعدته خير دون ان تمكنه من بطاقة أو أي دليل يثبت أنه هو من يراسلها.

ولكي لا تفطن إليه السلطات أو يطلع البريد على مراسلاته الكثيرة كان يرمي رسائله في صندوق البريد ليلا وفي كل مرة باسم مختلف. وكانت مقالات امحمد تنتهي دوما بلازمة ورثها عن عمه المرحوم قدور: كلامي مع ماليه...ولما تطورت قدرات امحمد صار يختم كتاباته التي كلها اتهامات للسلطات بعبارة: الفاهم يفهم.

ولقد كانت فرحة امحمد لا يسعها الكون يوم استدعي لمقر الحزب بالرباط واستقبله مدير المركز وشكره كثيرا واستضافوه ثلاثة أيام في فندق متواضع بالعاصمة، ثم في نهاية الضيافة سلموه مظروفا داخله خمس مائة درهم وما أدراك ما ذلك المبلغ في ذلك الزمن.

لكن امحمد وهو يغادر مقر الحزب شاكرا قرر أن يجلس وحيدا مع نفسه في مقهى ليفتح المظروف الذي لم يكن قد اطلع عليه بعد. بعد أن رشف الرشفة الأولى من قهوته وأشعل سيجارته الشقراء كاد يغمى عليه من الفرح حين لمح بطاقة المراسل باسمه تتلألأ بين وريقات من فئة خمسين درهما.

نظر إلى البطاقة وأمعن فيها النظر عشرات المرات ثم قبلها من وجهها وطهرها ما لا يحصى من المرات، إلى درجة بللها بدمعه وكان يردد همسا: جيتي ألحبيبة جيتي ألحبيبة...

في اليوم الموالي كان العالم كله يعرف ان امحمد ولد الفقيه اصبح صحفيا خصوصا انه اشترى لنفسه بدلات من سوق أسبوعية واصبح مواظبا على ارتداء نظارات "رايبن" وتلميع نعليه رغم الغبار الكثيف الذي تتميز به "مدينته".

وزاد امحمد من الدعاية لنفسه بان طلب لقاءات متعددة مع القايد والباشا وقايد سرية الدرك ومدير مركز البريد وكل موظف في القروية. اظهر لهم جميعا البطاقة السحرية وغير من لهجته التي اكتست نوعا من الهدوء وبعض الرسميات وكثيرا من الاعتداد بالنفس.

استمر امحمد في مراسلاته الصحفية التي ازعجت السلطات المحلية خمس سنوات.كان حاضرا في كل شيء واصبح جزءا من المشهد المحلي والإقليمي، سيما في شق الأنشطة الحزبية التي كان يلاحقها على متن دراجة "موبيليط" التي جاءته هديه من "مصدر" لم يكشف عنه نهائيا.

امحمد كان محظوظا جدا لان محررا بالجريدة توفي نتيجة جلطة سببها له افراطه في الخمر والتدخين، فكان ان وجدت الجريدة في صاحب "كلامي مع ماليه" بديلا معقولا له.

اخضعوه لفترة تكوين دامت ستة اشهر ثم رسموه بالجريدة محررا بالقسم السياسي واحترموا ميوله للعمل الميداني الذي ظل مغرما به وتسابق من اجله مع قدماء الصحيفة.

 

 

 

ترقي امحمد أيضا من المسؤوليات الحزبية من مناضل بشبيبة الحزب الى عضو بمجلسه الوطني فضلا عن وجوده عضوا او رئيس في كثير من اللجان التنظيمية.

كانت امنية امحمد منذ الاعدادي ان يصبح معلما غير انه لم يوفق في الامر ولكنه عوض عن تلك الأمنية بان تزوج بمعلمة لم تكن الا شقيقة زوجة احد قياديي الحزب. وبهذه الزيجة رسخ ولد قدور عميقا رجليه وكرسيه وقلمه في الحزب وجهازه الإعلامي.

تأسست صحف حزبية ومستقلة كثيرة منذ التحق بالاعلام الحزبي غير انه لم يفكر ولا مرة في الانتقال رغم العروض التي تلقاها. تعرض الحزب لرجات وانشقاقات اسفرت عن ميلاد تنظيمات أخرى راودته ليكون رئيس تحرير صحفها لكنه ظل مع الخط الرسمي و "القيادة الشرعية والتاريخية" للحزب العتيد.

تغيرت قيادات الحزب وتبدلت مكاتبه السياسية لكن امحمد ظل في مكانه. صار ت شبيبات الحزب شيبا ووصل هو سن الأربعين لكنه اقسم الا يتزحزح من موقعه.

كان يقاوم الزمن ويتفوق على الملل ويصيب الملل بالضجر منه. كما كان امحمد اول الملتحقين بمقر التحرير ولا يخرج بعده إلا البواب المسؤول عن مفاتيح المقر. كان يتصرف كمن يخشى أن يسرقوا منه الكرسي صباحا إن تأخر وكمن يخاف أن يسحب منه موقعه في حال خرج مساء وترك الزملاء أو الموظفين بعده. بل حتى في مسألة عطله المستحقة كان يماطل في طلبها ولا يطلبها إلا في اللحظة الأخيرة مخافة أن تروح عليه بدون تعويض.

وعندما يخرج للعطلة السنوية القصيرة يواضب يوميا على الاتصال بمن يثق بهم للاطمئنان على الوضع ومعرفة آخر المستجدات بمقر الصحيفة.

 

 

 

طوى امحمد كثيرا من الزمن وطوى الزمن كثيرا من ملامح امحمد الذي صار كهلا حقيقيا. ومع دورات الزمن وتقلبات الأيام عرف الحزب تطورات كان لابد لامحمد أن يكون ضمنها وينال منها حظا.

وفي غفلة من الزمن الذي انتصر فيه امحمد ولد قدور على الملل والضجر والقرف بكثير من الإقراف والإضجار لم يجد الحزب غير مراسله القديم صاحب عبارة "الفاهم يفهم" كي يدفع به بعيدا ليصبح في موقع زعيم بتنظيم مهني.

ولأول مرة يشعر امحمد بفير قليل من الاطمئنان على نفسه وذاته وأناه وموقع وكرسيه وأن الزمن لم يعد يهدده وأنه أصبح ذا وزن يصعب على الرياح معه أن تململه.

جلس امحمد بعد انتخابه زعيما على كرسي ضايقه كثيرا كونه وثير فوق ما تعودت عليه مؤخرته عقودا من الزمن. تنحنح امحمد وقال للرفاق كثيرا من كلام أصب جزءا من الحضور بالرغبة في النوم أو الذهاب مرات إلى دورة المياه.

بين التوصل ببطاقة مراسل وخطاب امحمد الزعيم انصرمت أربعة عقود بالتمام والكمال غير المنقوص. ولأول مرة يخطط امحمد في نفسه لشيء جديد: أن يبقى هنا، على هدا الكرسي المريح جدا، إلى آخر نفس في حياته.

عاد امحمد إلى بيته بعد التنصيب فسألته زوجته المعلمة التي أصبحت متقاعدة عن سبب بعض ابتساماته وهو على المنصة. قال لها: أفكر في نشر مذكراتي على حساب مطبعة الحزب طبعا وأضع لها عنوانا "جميلا": من قتل الملل؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

google-playkhamsatmostaqltradent